السبت، 22 ديسمبر 2012

" وَياكُمْ مَنْ الرشْوَة " و ماذا بعد ؟


    في إطار المساعي الرامية للقضاء على ظاهرة الرشوة التي تنخر جسد الاقتصاد المغربي ، و تهدد كيانه المجتمعي ، أطلقت الحكومة المغربية مؤخرا برنامج " وياكم من الرشوة "  للتحسيس  بمخاطرها ، و الرفع من مستوى وعي المغاربة بعواقبها الوخيمة على الراشي والمرتشي  من خلال  وصلات  إشهارية غير مسبوقة عبر وسائل الإعلام الوطنية بكل أنواعها  ، تتضمن مواقف تحاكي جانبا من  الواقع المعيش للمواطنين سواء تعلق الأمر بالرشوة " الصغيرة " والتي يتأثر بها المواطن البسيط مباشرة  ، أو " الكبيرة " التي لا تبدو له ولا يعرف عنها شيئا  . و مع ما لهذا البرنامج من أهمية فإنه يبقى خطوة على الطريق الصحيح يجب أن يكون لها ما بعدها
، ذلك أن مدة ئلاثة أسابيع أو شهر لا تكفي  للحد من  ظاهرة على هذا المستوى من الخطورة  ، إضافة إلى أن  المتتبع لبعض الوصلات الإشهارية التي تذاع و تبث لهذا الغرض  يسجل  محدودية قدرتها على الإقناع ، وسأختار وصلتين منها لإبراز ذلك : 
  - الوصلة1 : رشوة " الصغار "
      " موظف حكومي أمامه طابور من المواطنين ,,,يتقدم شخص لم يصل دوره بعد ليسلم شيئا للموظف فيقدمه على من سبقوه من المواطنين ليثور أحدهم  في وجهه  محتجا ومنددا ",,,,لكن الوصلة تقف هنا في إشارة إلى أن هذا السلوك الذي يدل على أن  وعي المواطن بحقوقه  كفيل بالحد من الظاهرة ، وهذا صحيح  لولا المصير الذي اكتوى بتفاصيله  كثير  ممن  تجرؤوا على الانتقاد و الجهر برفض ذلك السلوك  في إدارة من الإدارات من قبل ، كيف لا و المُنتفِض أو المُحْتَج  في عرف  الموظفين المرتشين في الإدارة ، المستشفي ، الطريق ...مواطن  " فَاهَمْ أوْ حَاسْ بْرَاسُو ، قَافَزْ ، مْطَورْ   ..."  تجب "تربيته " و من ثم فهو معرض للانتقام بطرق عدة فيصبح مصير وثائقه في كف عفريت و و هكذا  فإما:
  -       أن يتأخر في الحصول علي  الوثيقة  لساعات أو أيام و بنص " القانون " الذي لم يَكن ليُطبق في حقه لولا سلوكه هذا ،  أو يحصل عليها متضمنة خطأ مقصودا سيرغمه على العودة مرة أخرى ، و ما يعنيه ذلك من  انتظار أكثر حتى ينصرف كل من في الطابور.
-       أن يصب عليه المواطنون جام غضبهم بدل الموظف  لو كان رد فعل الموظف هو مغادرة  المكان و ترك الجميع ينتظرون ،والأعذار كثيرة وجاهزة ( استراحة ،تدخين ،زيارة رئيسه :...
-        أن  يحصل على بطاقة أو وثيقة  بصورة شخص آخر فيضطر لإعادة الوثائق من البداية ،
-       أن  يكون نصيبه وصفة طبية حسبما اتفق ، أو إهمال المريض الذي يرافقه  أو الانتقام منه ....
-       أن يجد نفسه  في قفص الاتهام بالمحكمة مطالبا بإثبات اتهامه - إذ لا احد سيقدم رشوة للآخر أمام الملا - أو  في مواجهة تهمة إهانة موظف أثناء القيام بعمله ،و قد لا يجد بين المواطنين الذين كانوا معه من يسانده خوفا من نفس المصير
-      أن  يقع ضحية غرامات متتالية  لو كان صاحب عربة ، و كلنا يعلم طبيعة الحالة الميكانيكية لغالبية أسطول المركبات التي تجوب طرقنا وقد  .;وقد....
     لذلك فليكون أثر هذه  الوصلات بليغا  كان من الأولى أن تكتمل بتحديد نهاية كل من الموظف المرتشي و المواطن المنتفض ،  كأن يظهر المواطن و قد غادر الطابور وتوجه إلى مصلحة معينة تستقبل شكواه باهتمام و تتدخل بشكل عاجل ,,,أو  إظهار المواطن الذي طاله انتقام الموظف بشكل من الإشكال لانتقاده له و قد تم إنصافه،أو إعلان تحمل الإدارة لمصاريف إعادة الوثيقة التي تتضمن خطأ لا علاقة للمواطن به .....
- الوصلة : 2رشوة " الكبار"
" تُظْهِر مقاولا يتنفس الصعداء بعد أن اضطر لدفع رشوة - عملا بنصيحة صديقه الوسيط -  مقابل الحصول على صفقة مشروع ،أو تسهيل المساطر لبلوغ نفس الهدف ...ثم يأتي بعد ذلك  التحذير من عواقب الرشوة  " وهي وصله مغايرة للأولى (سلوك الرفض / القبول )، فيما لا تشير لعواقب ذلك  كمحاكمة ذلك  المقاول مثلا لضبط المصالح المختصة للتلاعب في طلب العروض ، أو نتيجة الغش أثناء إنجاز  ذلك  المشروع ، كما لا تشير  للمسار المفترض أن يتبعه ذلك المقاول الذي تم ابتزازه لو أنبه ضميره  ،و ماهي المصلحة التي سيتوجه إليها لرفع شكواه و ما رد فعلها ؟ و هل تم  إنصافه أم كان جزاؤه خسارة تلك الصفقة و ما بعدها ؟   
    وقد أغفلت تلك الوصلات عاملا مهما و أساسيا  يسهم في تفشي  ظاهرة الرشوة ، و يرتبط بعقلية المواطن المغربي نفسه ،المريض بالأنانية حتى النخاع تحت شعار " رَاسِي يَا رَاسِي " فمهما تأخر و أينما اتجه تجده يندفع بكل الوسائل ليكون الأول و خاصة  أولئك الذين  يعتبرون أنفسهم " مواطنين من الدرجة الأولى " فوق القانون  لا ينبغي لهم الانتظار أو اخذ مكان في طابور كغيرهم من " مواطني الدرجة الثانية " متناسين  أن المغاربة سواسية مهما اختلفت ألوانهم و مراكزهم و مكانتهم الاجتماعية .
     إن الوصلات الإشهارية والملصقات من الوسائل المهمة في التحسيس والتوعية ، لكنها فيما يتعلق بظاهرة معقدة كالرشوة تعجز عن  تحقيق الهدف و حدها ، و سيكون إعداد برنامج أو مسلسل يظهر وقائع محاكمة موظفين و مسؤولين مرتشين  ، وكذا المواطنين والمقاولين الذين شاركوهم،  و  العقوبات اللازمة التي صدرت في حقهم ، على شاكلة برنامج " مداولة " مثلا  أفضل بكثير .... وتتطلب محاربة الرشوة فضلا عن ذلك تسهيل شروط التبليغ بالمرتشين ... و تيسير المساطر القانونية و تجميع مصادر الحصول على الوثائق الإدارية ، فالواقع  المعيش يكاد يجعل الرشوة أمرا واقعا، فكثير من المساطر معقدة وما تتطلبه من وقت أطول و مصاريف خيالية تجعل المواطن الذي يختار غير سبيل الرشوة ينكسر أمام صخرة الموظف المرتشي المسلح برزنامة من الطلبات ، و من ثم يجب فتح مصلحة مستقلة في كل إدارة لتلقي شكايات المواطنين والبث فيها عاجلا ، و إنتاج أفلام أو مسلسلات باللغتين العربية والأمازيغية توعي المواطنين بحقوقهم و تظهر  حالات معاقبة المرتشين نتيجة سلوك مواطن بسيط ، و توفير مزيد من الحماية والضمانات  للمبلغين ....

 

14 التعليقات :

صدقت في ما تفضلت به سي محمد.
كأني أجد أنهم يقدمون لنا الحلول مجملة، والمشاكل مفصلة، بحيث أن برنامج أخطر المجرمين مثلا يقدمون فيه الاجرام مفصلا، لكن وصلات الاشهار كهذه التي تخص الرشوة وغيرها من الظواهر الاجتماعية تكون مجملة ومتجاهلة لجوانب مهمة قد تخطر ببال المواطن ليتساءل ما الحل إذن؟ وفي ظروف كهذه، تلك الظروف التي يعرفها الجميع أن الذي يحتج سيجد كل المواطنين يطالبونه بالصمت والصبر أو ينهره البعض، ليقال له راك عطلتينا بهذا الصداع...
الحل ما قلتَ لا يكمُن في وصلة اشهارية سريعة، بل الحل هو تقديم حل متكامل الجوانب، لا يدع مجالا للحيرة عند المواطن.
تحيتي سي محمد موضوع جد مميز.

السلام عليكم ورحمة الله

كم يسعدنى جدا ان ارى دائما المدونين المغاربة يتصفون بالرقى فى اختيار مواضيعهم التى يتناولونها بمواقعهم
عمق تفكير وهدف نبيل بعيدا عن اى توافه للأمور ويحاولون دائما النهوض بشأن بلادهم والبحث عن حلول لمواطن الضعف فى مجتمعهم

بارك الله جهودكم وسدد خطاكم اخى الكريم
تحياتى بحجم السماء

موضوع شائك و يزداد تغلغلا ليس فقط في المغرب بل في كثير من بلدان العرب
ولهذا ستجد هذه البلدان تتخذ خطوة إلى الوراء
لضميرك النقي منا كل التقدير والإحترام
ولقلمك الهادف تحية

بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا لك استاذنا العزيز على هذاالموضوع الحساس الذي يعني شرائح معينة في بلادنا هذا ,,,,,في الحقيقة تساؤلات كثيرة تروج في ذهني لهذا الموضوع,,منها ما السبب الذي يؤدي بالإنسان الى دفع الرشوة؟وما السبب كذلك الذي يؤدي بالمعني لأخدها؟هل يمكن القول بأن النظام المعمول به هو الذي يساهم في تنمي هذه الظاهرة وغيرها؟
ألا يعلم المواطن بأن الوثائق الإدارية حق وطني لكل فرد تتوفر فيه شروط المواطنة؟بطبيعة الحال هناك من يجهل كل هذه الأمور
وعلى سبيل المثال :في ما يسمى بالحملة التي تقوم بها بعض السلطات من أجل تسجيل المواطني الذين لا يتوفرون على البطاقة الوطنية....نرى البعض تتوفر فيه كل الشروط وفي المقابل يضع مبلغ مالي زائد في ظرف ليسلمه لأحدهم من أجل خدمته,,,إلخ إذا قلت له ماذا فعلت ؟يبرر لك بأنه لن يحصل على الوثيقة كما ينبغي ,,,,
هذا صحيح عندما أريد الحصول على البطاقة الوطنية حينها كنت واعيا بخطورة الموضوع ولم أسدد سوى مبلغ التمبر فقط...لما أخبرت أحد المواطنين فقال لي لن تحصل على تلك البطاقة أو أنك ستحصل عليه وهي غير كاملة وبالطبع هذا ماحصل لكن لم أصدق تجاهل الأمر وقلت ربما خطأ مطبعي فقط ؟فهل يمكن أن يكون ذلك المواطن على صواب؟
إلخ من المظاهر

دائما ما استقى من هنا روعة عرض الموضوع وطرق حله ولكن اخى الكريم احب ان ازيد هنا ان موضوع الرشوة للأسف لن يتم اصلاحه فقط بمصلحة تسمع للشكوى او مسلسل ولكنه نظام لابد له ان يتبع من البداية للنهاية نظام يبدأ بتحقيق العدالة فى المجتمع نظام يرتكز على تحسين دخل الفرد حتى لا يلجأ الى الرشوة نظام يعتمد على الكثير والكثير ولكنها كما زكرت اخى خطوة على الطريق الصحيح
تحياتى وودى وتقديرى

@أبو حسام الدين
متفق معك اخي رشيد
فعلا كنت ساشير لادراج جرائم الرشوة ضمن برنامج " اخطر المجرمين" لكن لم افعل لاني ضد فكرة البرنامج
شكرا لك على تواصلك الدائم

@ليلى الصباحى.. lolocat
شكرا لك استاذة ليلى على مشاعرك النبيلة
و كلماتك الغالية هذه خير محفز على المزيد
تحياتي

@زينة زيدان
بورك فيك أختي زينة
فعلا ظاهرة الرشوة ظاهرة لا تسنثني بلدا
و فعلا هذا سر تخلفنا
شكرا لك على مرورك الطيب

@AIT KABIR Mohamed
أهلا بك سي محمد
لقد كانت كلماتك - شهادتك - خير دليل على صحة ما ذهبت إليه
و المثل يقول : مايحس بالمزود غير لي مضروب به "
اسعدني تعليقك
تحياتي

@محمد جمال
شكرا لك أخي محمد جمال على مشاعرك الرقيقة هذه
و اشكرك على ملاحظاتك فعلا نحن في حاجة لنظام متكامل ... لكن صدقني فكثير من المرتشين من ذوي الدخول المرتفعة
و مسألة القبول بها مرتبط اساسا بتربية وقناعات الشخص
تحياتي

أتفق معك اخى محمد دائما تضع يدك على موضوعات مهمة وتجول فيها ماشكا مشرح الجراح ...شكرا لك

الرشوة سوس ينخر كثيرا من المجتمعات ، و هو ظاهرة مبنيّة على شيئين اثنين ، أولهما شهوة وجشع المرتشي و فساد خلق الرّاشي ، أما الشيء الثاني فهو الأعمق و الأكثر أهمّية و نعني به فسات المنظومات الخدميّة و الإدارية و النّظم التعليميّة و الإقتصادية و تلوّثها بالبيروقراطيّة الجامدة ..
اختصارا لا تنمحي الرشوة إلاّ بالإصلاح الشامل لكل مؤسّسات الدولة و فرض رقابة مع قانون صارم ...

تحياتي لعين تحسن رصد علل المجتمع .

http://zaman-jamil.blogspot.com

@Mostafa Al Shall
شكرا لك اخي مصطفى على مرورك الطيب
تشرفت

إرسال تعليق

أخي القارىء أختي القارئة تعليقك على الموضوع دعما أو نقدا يشرفنا فلا تتردد في التعليق عليه ...