...اكفهر وجه الدنيا في عينيها، متجهمة الوجه
، شاحبة اللون ، شاردة الدهن تسير، ...، ضاقت
بثقل رجليها وبشِعَارِها المُبتل عن الآخر، تخطو خطوات وئيدة و كأنها إلى الوراء
،الشمس إلى مرقدها تزحف .. صدى كلمات المدير لا يزال يصك أذنيها وكأنه نفخة الصور
...
في يوم عاصف دعتها مريم صديقة طفولتها الوفية إلى
بيتها ، من تَحَامَتْها قريناتها ضيقا بنصائحها بعدما تحجبت .. تجاذبا أطراف الحديث
وهما يرتشفان الشاي في غرفتها الخاصة ، باحت لها بأسرار علاقتها الجديدة بشاب وسيم
يتردد على الحي نهاية كل أسبوع ..والذي اعترض سبيلها مرات ، وأمطرها بوابل من
عبارات الثناء والتبجيل مشفوعة بنكهة التودد والتوسل ،عارضا حبه وهيامه بكلمات
منتقاة أسكرت عقلها وأسَرَت قلبها ...انتفخت أوداج مريم وقد صعقتها المفاجأة بل
أنستها ما دعتها من أجله ،غير أنها لم تنبس ببنت شفة ..فقد أثكلها انفعالها صديقات
كثيرات في مناسبات و مواقف مثل هذه ..وظلت صامتة ..
حُرَّة فتاة في ربيعها
السابع عشر ، حرص أبوها وكد لتتابع دراستها، كانت ثالثة أبنائه ، أعطاها من الحرية
بمقدار حبه الشديد لها ،ولم يحدث أن علق على ملابسها الخفيفة القصيرة غالبا ،وما
تمطر به جسمها من روائح ، وما تغطي به وجهها من مساحيق قبل مغادرة البيت ، وإن لم
يسمح لهايوما بالتعجل في الذهاب إلى المدرسة أو التأخر في الإياب "عشر دقائق قبل
وبعد فهمت " يكرر دائما .
...لم ينل جفاء ولامبالاة
حرة من إصرار وعزم الشاب ..سلواه أن الحنظل من فم الحبيب عسل .. تلقَّتْ
روايات عُيُونها المتباينة بشأن هويته وعمله بارتياح ،المهم أنه
موظف وليكن على سطح المريخ ..
...تلاشى
غَنَجُها بعدما أفهمها بلهجة مذعنة عجز كلماته الصادقة العفوية عن وصف مشاعره
وأحاسيسه تجاهها ، وشرود عقله ومكابدته الأرق منذ اللحظة التي وقعت عيناه
عليها ،عزاؤه الوحيد أغاني "المغني العراقي " التي حفظها عن ظهر قلب ..شنف
مسمعها في حينه بمقاطع من إحداها ..وأقسم و أقسم بأغلظ الأيمان إنه
لمن الصادقين ..تسمرت عيناها في وجهه مذهولة ..أطلق العنان ليده ... ثارت في وجهه
معترضة بشدة وهددت بإسدال الستار ...اعتذر و وبدهاء خارق غير مجرى الحديث ، فتحدث
بإسهاب عن الحرية الحقة وسُمُوِّها وعن.. وعن ..
تكثفت لقاءاتهما بعيدا عن أنظار
عيونها وحساده ،استمتعت خلالها بتفاصيل سيرته الملائكية ..سيرة وضعت حدا لتكتمها
فعبرت له دون مقدمات عن توقها الشديد لذلك اليوم الذي سيلتحمان فيه تحت سقف
واحد ..شاركها الكلمات نفسها ببرودة متبسما ..
لم تتمالك مريم نفسها فصرخت في
وجهها"أية حرية وأي مستقبل عزيزتي ..كيف غابت عن مخيلتك صورة حسناء النجيبة
الجميلة بنت الحاج محمد التي غدر بها علوان وزج أخوها
المغيار في السجن وطلقت أمها ...ونورة التي تعترض المارة رجاء معونتهم بأسمال بالية تزكم الأنوف وقد أرخى خريف جمالها و
شبابها سدوله ، وهجرها الإخلاء والأخدان ..." ..
نَحَّت جانبا و بثقة تامة ما ساورها من شكوك وردت غير مكترثة "أبعد الله الشر " اطمئني وضعيتي مختلفة تماما إنه يحبني وسنتزوج قريبا .
نَحَّت جانبا و بثقة تامة ما ساورها من شكوك وردت غير مكترثة "أبعد الله الشر " اطمئني وضعيتي مختلفة تماما إنه يحبني وسنتزوج قريبا .
وليكن يا حرة صداقتنا في مفترق الطرق ...لا تنسي مهما صدق أن
البيوت تؤتى من بيوتها ،آمل أن نلتقي وقد غيرت رأيك ..قالت مريم ذلك مودعة إياها...
استأثر عديم بكل وقتها ولم تعد مريم جديرة بشيء منه وأهملت دروسها. ، لم تنفع معها تلميحات ذلك المدرس الذي يفتح
التلاميذ أبواب قلوبهم على مصراعيها لنصائحه ، ولا نظرات مريم الزاجرة و
المشفقة في آن ..
انفرد بها عديم فأجاد العزف على الوتر أياما حتى صارت قطعة عجين بين
يديه ..
فى أولى أيام الإجازة
الصيفية أحست حرة بمغص شديد وحركات غريبة تهز أحشاءها ..أعدت لها الأم التي تنتظر
بلهفة لحظة إعلان نتائج الباكالوريا لتطلق العنان للزغاريد فرحة بالنجاح ، من العقاقير
الفعالة ما تعودت علية دون جدوى ..اغرورقت عيناها بالدموع وهي ترقب تلونها
كالحرباء ..وفي المساء عاد الأب غاضبا ساخطا وبين يديه رسالة من
المؤسسة التي تدرس بها تسلمها على التو "معدل غريب... " توسلت إليه الأم أن يؤجل
الأمر إلى أن تتحسن حالتها ..دفعها بعيدا.. وسألها في حنق وغضب ما هذه النقط
يا..؟ ردت خائفة متلعثمة "الامتحانات صعبة هذه السنة وتعسف بعض الأساتذة
و..و.."اخرسي ..اقتربت الأم وحاولت أن تهدئ من روعه وتطفئ لهيب
النار المشتعلة في عينيه على أن يتأكد بنفسه في الصباح و ليس الصبح ببعيد والمدرسة
في مرمى البصر ...تظاهرت بالشفاء وكظمت آلامها واستغرقت ليلتها تفكر في مخرج .. هو
ذا الأب أرعد وأبرق ولم يعرف الحقيقة بعد ،وفي طريقه إلى العمل سيمر على المدرسة
وسيعرف كل شيء و ربما تكشف إحدى زميلاتها أوراقها قبل أن يبلغها ..إنها في طريق
سريع نحو المجهول ..
لملمت أشياءها مع صياح الديك.. قبلت يد
والدها وهو يهم مغادرة البيت مكسورة الجناح ، مطأطأة الرأس .. عادت إلى غرفتها
تتحين فرصة استغفال والدتها المنهمكة في إعداد إفطار إخوتها ،ووصفة جديدة لآلام
البطن حصلت عليها لدى إحدى جاراتها ..
غادرت البيت
قبيل موعدها الاستثنائي مع عديم ..انتظرت كثيرا على غير عادتها التفتت يمينا
ويسارا ..لابد أنه يمزح كعادته ، تفقدت المكان راكضة ولم تترك جدع شجرة إلا وحامت
حوله مرات ...ناشدته بصوت مسموع أن يكف عن مزاحه ويظهر فالخطب جلل
..عديم..عديم..لابد أن مكروها أصابه ..أنساها تأخره غير المسبوق محنتها ..أمَّت مقر
عمله الذي وصف موقعه لها يوما مكرها اتقاء شواظ ألسنة حساده .. قابلت المدير
وسألته لكنه لا يعرف موظفا تحت إمرته باسم عديم ..وصفته للحارس المتسمر على سارية
الباب بصعوبة ، والمترقب خروجها بل حضورها منذ أن رآهما يوما معا في المنتزه ..مد
راحته إلى جبهته الآيلة للسقوط مسترجعا شريط ذكريات سنوات عمله الأولى وهو
يحدق في وجه كخرقة سوداء ...عادت إلى رئيسه بالاسم ..أخبرها متأسفا وهو يوصد
باب مكتبه برحيله قبل يومين ..شكرته وانصرف ..
لمحت غير بعيد نخلة تداعب السماء
صامدة في وجه صروف الدهر ، مخلدة للإنسان رشقها بالحجر ...آوت إلى جذعها
منهارة القوى ، تقرفصت مرتعشة ، يجلدها شعور جامح بصياح النخلة في وجهها
ويعمق جرحها ..تمنت لو تقتلعها ريح عاتية فتواري سوءتها إلى
الأبد ...
ارتمت على الجدع
بقوة وصاحت أه أين أنت يا مريم ؟ ...
8 التعليقات :
هو عديم النخوة و الشهامة كإسمه .... كان الله في عون الساذجات من بني جنسي في عالم تزين فيه الذئاب بأقنعة الرجال..
تحياتي لجمال حرفك أستاذي
دمت وفية لكل جديد مفيد أختي حنان و أنار الله طريق كل الشابات لاتقاء شر مخالب الذئاب
سرد ممتع بأسلوب واقعي.
كم من مريم وقعت فريسة الذئاب..
لكن تبقى السداجة شيئا سخيفا يجب ان تنتبه إليه كل فتاة.
تحية لك ابا حسام
الفتيات لا يتعظن بقصص غيرهن فتجد نفس السيناريو يتكرر مع كثيرات فهل هي السداجة ام شيء اخر
كم تتكرر هذه القصص على أسماعي .. و كم من بنت ننصحها و ترد بكل طيبة و سذاجة سيتزوجني ..
مع أنهن لا يفقهن شيئا فلو لم يخن .. ربما يموت !
و في هذا الزمن أصبحنا نتفادى الحديث عن الحلال و الحرام فكأن الزمن تجاوزه عند البعض
و أحيانا تكون البنت ملتزمة تلقت تربية حسنة و كأن الشاب يمحو كل شيء لديها و لا يبقى سواه ..
قد تكون مجرد قصة ..
لكني شعرت بكل كلمة و كأنها حقيقية .
دمت مبدعا .
دمت قارئة ذواقة و لا جف قلمك أختي العزيزة
أسال الله لك ولكل الفتيات التوفيق والسداد والتنبه لهذه السمفونية المتكررة للأسف الشديد
مه تحياتي
هي مأساة مريم تتكرر باستمرار و ذئاب بشرية تختفي خلف أقنعة آدمية
طرح جميل و أسلوب راقي في السرد
أبدعت أستاذي
أكيد اختي العزيزة منار
شكرا لك على مرورك المتميز
إرسال تعليق
أخي القارىء أختي القارئة تعليقك على الموضوع دعما أو نقدا يشرفنا فلا تتردد في التعليق عليه ...